سورة الفاتحة

مع روائع البيان القرآني مع أول التأملات في سورة الفاتحة العظيمة ، وهي أعظم السور ،  وهي سبع آيات باﻹتفاق ، ومن العجب أن آخر ثلاث سور في القرآن وهم اﻹخلاص والمعوذتين ، عدد آياتها على الترتيب 6/5/4 ثم الفاتحة 7أيات ، 
وقد ختم الكتاب العزيز بالمعوذتين وبدئ بالفاتحة ، فما أروع البداية وماأروع الختام ، ففي البداية في الفاتحة (إياك نعبد وإياك نستعين) ، في النهاية (قل أعوذ برب الفلق ) (قل أعوذ برب الناس) ، فبدأ القرآن باﻹستعانة برب العالمين ، وختم بتعليم العباد أن يلجأوا إلى حمى الرحمن ،  ويستعيذوا بجلاله وسلطانه ، من شر مخلوقاته ، ومن شر أعدى اﻷعداء ، إبليس وأعوانه من شياطين اﻹنس والجن ، الذين يغوون الناس بأنواع الوسوسة واﻹغواء ، فجمع القرآن بين حسن البدء ، وحسن الختم ، وذلك غاية الحسن والجمال ،  ﻷن العبد يستعين بالله ويلتجئ إليه من بداية اﻷمر إلى نهايته ، فسبحان من هذا كلامه !!!!!

(الحمد لله رب العالمين )  الحمد : الثناء بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل مقرونا بالمحبة وهو نقيض الذم وأعم من الشكر ﻷن الشكر يكون مقابل النعمة بخلاف الحمد وقد علمنا الباري كيف ينبغي أن نحمده تعالى ونقدسه ونثني عليه بما هو أهله ومن أكبر النعم وأجلها خلق السموات واﻷرض كما أخبر سبحانه في سورة غافر آية 57 ( لخلق السموات واﻷرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس ﻻيعلمون ) وبهذا بدأت سورتي اﻷنعام وفاطر ( الحمد لله الذي خلق السموات واﻷرض وجعل الظلمات والنور )   (الحمدلله فاطر السموات واﻷرض)  وإذا عاش اﻹنسان بغير منهج رباني عاش كاﻷتعام وبهذا بدأت سورة الكهف (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا )  فلله الحمد في اﻷولى واﻵخرة وبهذا جاءت سورة سبأ (الحمدلله الذي له مافي السموات وما في اﻷرض وله الحمد في اﻵخرة )  فهوﻻء خمس سور بدأت بالحمد لله


مع روائع البيان القرآني ، وتأملات سورة الفاتحة (3) ، بدأ ربنا عز وجل كتابه الكريم بالحمد فقال (الحمد لله رب العالمين) ، وفيه إشارة لطيفة بأن هذا دأب العبد مع خالقه ومربيه ورازقه في كل أحواله ، في يسره وعسره ، وفي رخائه وشدته ، ومنشطه ومكرهه ، بأن يكون حاله دائما هو الحمد لله . والحمد هو الثناء على الله بصفات الكمال ، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل فله الحمد الكامل بجميع الوجوه ، والحمد لله خبرية لفظا ، إنشائية معنى أي قولوا (الحمد لله) ، وفيه تعليم الخلق كيف يحمدونه ، وجملة (الحمد لله) مفيدة لقصر الحمد على الله كقولهم : الكرم في العرب .

ومن تمام ملكه سبحانه أن له كل مافي السموات ومافي اﻷرض ملكا وخلقا وتدبيرا ، فالثناء كله حق له وحده ، والشكر الكامل في اﻵخرة كما هو له في الدنيا ، ﻷن النعم في الدارين كلها منه ، فكما أنه المحمود على نعم الدنيا فهو المحمود على نعم اﻵخرة ، وهو الحكيم الذي يضع اﻷشياء في مواضعها المﻻئمة لها ، ويختار أفضل اﻷشياء وأتقنها وأحسنها في اﻷمور المختلفة لما يعطي أحسن النتائج ، الخبير المطلع على سرائر اﻷمور وخفاياها وبهذا جاء قوله تعالى في سورة سبأ (الحمدلله الذي له ما في السموات وما اﻷرض وله الحمد في اﻵخرة وهو الحكيم الخبير) آية 1 . وله الحمد في اﻵخرة ﻷن في اﻵخرة يظهر من حمده والثناء عليه ما ﻻيكون في الدنيا ، فإذا قضى سبحانه بين الخلائق كلهم ، ورأى الناس والخلق كلهم ماحكم به وكمال عدله وقسطه وحكمته فيه ، حمدوه كلهم على ذلك ، حتى أهل العقاب ، مادخلوا النار إﻻ وقلوبهم ممتلئة من حمده ، وأن هذا من جراء أعمالهم ، وأنه سبحانه عادل في حكمه بعقابهم .

وكما بدأ ربنا كتابه بالحمد تكرر الحمد في ست وعشرين موضعا ( 26) في كتابه ليعلمنا حمده في كل أحوالنا ، وحتى موتنا فقال عز وجل (الحمدلله الذي خلق السموات واﻷرض وجعل الظلمات والنور..) سورة الأنعام آية 1 ، فحمد نفسه على خلقه السموات واﻷرض الدالة على كمال قدرته وسعة علمه ورحمته وعموم حكمته وانفراده بالخلق والتدبير ، وعلى جعله الظلمات والنور ، وذلك شامل للحسي من ذلك ، كالليل والنهار والشمس والقمر ، والمعنوي ، كظلمات الجهل والشك والشرك والمعصية والغفلة ، ونور العلم واﻹيمان واليقين والطاعة . وفي ذلك يعلمنا خالقنا أن نحمده بهذه الصيغة ، ولما نصر الله رسله وأعز دينه وأهلك الكافرين علمنا الحمد فقال عز وجل في سورة اﻷنعام آية 45 (فقطع دابر القوم الذين والحمدلله رب العالمين) ، ولما نزه نفسه عز وجل عن اتخاذ الولد ، وأنه ليس له شريك في ملكه ، وأنه ليس بذليل فيحتاج إلى الولي والنصير ، أمرنا بحمده فقال تعالى في سورة اﻹسراء (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ) آية 111، ولما أنزل علي عبده القرآن ، قال (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) الكهف آية 1.

وأفضل من حمد الله هم خير خلقه ، وهم رسله وأنبيائه ، قال إبراهيم عليه السلام (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ) سورة إبراهيم آية 39 ، وكذلك حمدا دواد وسليمان  لما آتاهما ربهما النبوة والعلم والملك (ولقد آتينا دواد وسليمان علما وقاﻻ الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) النمل 15 ، وكذلك أمر الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في قوله (قل الحمد لله وسﻻم على عباده الذين اصطفى...) النمل 59 . وفي قوله ( وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها ...) النمل 93 . وما أروع الختام بالحمد وذلك ﻹهل الجنة لما دخلوا (وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وماكنا لنهتدى لوﻻ أن هدانا الله ....) اﻷعراف 43. (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ) ( الذي أحلنا دار المقامة من فضله ﻻيمسنا فيها نصب وﻻيمسنا فيها لغوب ) 35/34 فاطر ، وكان آخر دعواهم (أن الحمد لله  رب العالمين ) يونس آية 10، فدأب أهل الجنة الحمد لله أوﻻ وآخرا ، فإنهم يرون من توالى نعم الله وإدرار خيره وكثرة بركاته وسعة عطاياه التي لم يبق في قلوب أهل الجنة أمنية وﻻإرادة إﻻ وقد أعطى فوق ماتمنى وأراد . وهو سبحانه وتعالى يظهر ﻷهل الجنة في الجنة كل وقت من عظمته وجلاله وجماله وسعة كماله ما يوجب لهم كمال الحمد والثناء عليه .

مع روائع البيان القرآني ، وتأملات سورة الفاتحة العظيمة ( 4 ) ، (الحمد لله رب العالمين) ، إن المستحق للحمد بحق هو الله تعالى ، فإن الملك له بحق ، قال تعالى في سورة التغابن (له الملك وله الحمد ) آية1 ، فلما كان له الملك الكامل بحق فاستحق الحمد بحق ، واستحق الحمد بحق لكماﻻته الذاتية المطلقة ، وﻷنه المحسن على كافة خلقه ، (رب العالمين) ، مالكهم وخالقهم ، ورازقهم ، ومربيهم وفق نظام التربية المتدرج حاﻻ بعد حال ، ومصلحهم ، وسيدهم المطلق ، والمنعم عليهم بالنعم العظيمة التي لو فقدوها لم يكن لهم البقاء ، فما بهم من نعمة فمنه تعالى ( ومابكم من نعمة فمن الله ..) سورة النحل 53 ، (العالمين)  وهم كل من سوى الله ، والدليل على وحدانيته أن كل من سوى الله مخلوق من زوجين قال تعالى (سبحان الذي خلق اﻷزواج كلها مما تنبت اﻷرض ومن أنفسهم ومما ﻻيعلمون) يس 36 ، فكل المخلوقات خلقت من زوجين ، حتى الذرات ، وفي القوى الكهربائية والمغناطيسية ، وفي كل شئ مما غاب عنهم وهذا دليل على وحدانيته ، والرب هو المربي لجميع العالمين ،  وتربيته تعالى لخلقه نوعان :  عامة وخاصة : فالعامة هي : خلقه للمخلوقين ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا ،  والخاصة : تربيته ﻷوليائه ، فيربيهم باﻹيمان ، ويوفقهم له ، ويكملهم ، ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه . وحقيقتها : تربية التوفيق لكل خير والعصمة من كل شر ، ولعل هذا هو السر في كون أكثر أدعية اﻷنبياء بلفظ الرب ، فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة ؛ فدل قوله : (رب العالمين) على انفراده بالخلق ، والتدبير ، والنعم ، وكمال غناه ، وتمام فقر العالمين إليه بكل وجه واعتبار (تفسير السعدي)

مع روائع البيان القرآني وتأملات سورة الفاتحة العظيمة  ( 5 )  مع قوله (الرحمن  الرحيم)  اسمان داﻻن على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شئ ، وعمت كل حي ، وكتبها للمتقين المتبعين ﻷنبيائه ورسله ،  فهؤﻻء لهم الرحمة المطلقة ،  وماعداهم فله نصيب منها ، فالنعم كلها أثر من آثار رحمته .
قال الخطابي : الرحمن ذو الرحمة الواسعة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم ، وعمت المؤمن والكافر ، وجميع الخلق ، حتى الدابة ترفع حافرها عن وليدها خشية أن تصيبه ، والرحيم خاص بالمؤمن كما قال تعالى ( وكان بالمؤمنين رحيما )  ، والرحمن على وزن (فعلان)  وهي تدل على الصفات المتجددة ،
وذلك مثل : عطشان وغضبان ، والرحيم على وزن (فعيل) وهى تدل على الثبوت وذلك مثل : طويل وجميل ،  فجمع  الله سبحانه لذاته الوصفين ، حتى يعلم العبد أن صفته سبحانه وتعالى الثابتة هي الرحمة وأن رحمته مستمرة متجددة ﻻتنقطع أبدا .
وعلى هاتين الرحمتين يقوم ركن النبوات ، فهو رحمة عامة للمرسل إليهم ، ورحمة خاصة للمرسلين ، ومن اهتدى بهديهم . وتقديم الرحمن على الرحيم من باب تقديم العام على الخاص ، فكلاهما مشتق من الرحمة ، ولكن الرحمن تتعلق برحمته سبحانه بحميع خلقه ، مؤمنهم وكافرهم في الدنيا ،  فهي رحمة عامة ، أما الرحيم فهي خاصة بالمؤمنين في اﻵخرة ،  وهي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تسع وتسعون جزءا.


مع روائع البيان القرآني وتأملات سورة الفاتحة ( 6 ) ، قوله تعالى  (الحمد لله العالمين ) ، أنظر أيها العبد الضعيف من تحمده هو رب العالمين فهو المربي جميع العالمين ، وهم من سوى الله ، فهو المربي لهم بخلقه لهم وإسباغ نعمه عليهم ظاهرة وباطنة . وفي هذا ترهيب ، وكما قال القرطبي لما كان في اتصافه ب (رب العالمين)  ترهيب قرنه ب ( الرحمن الرحيم ) لما تضمن من الترغيب ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه فيكون أعون على طاعته وأمنع كما قال تعالى (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب اﻷليم) الحجر50/49 انتهى كلامه .
وأيضا قوله تعالى (واعلموا أن الله يعلم مافي أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم) البقرة 235 . واﻵيات في هذا المعنى كثيرة . فعلى العبد أن يجمع بين الخوف والرجاء ، ففي الدنيا يغلب خوفه على رجاءه ،  وعند موته يغلب رجاءه على خوفه ، كما قال الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عن حاله وهو يحتضر قال :  أرجو رحمة ربي وأخشي ذنوبي .


مع روائع البيان القرآني وتأملات سور القرآن الفاتحة  (7 )  يقول صاحب غرائب القرآن النيسابوري 95/2 : في المسألة الخامسة في تفسير قوله تعالى(مالك يوم الدين) في هذه السورة من أسماء الله خمسة : الله ، الرب، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ،  كانه يقول لك: خلقتك أوﻻ فأنا الله ، ثم ربيتك بأصناف النعم فأنا الرب ، ثم عصيت فسترت عليك فأنا الرحمن ، ثم تبت فغفرت لك فأنا الرحيم ، ثم أجازيك بما عملت فأنا مالك يوم الدين . ومن نكات الترتيب التي ذكرها الرازي في الفاتحة في تفسيره مفاتيح الغيب بعد ذكر الرازي لإسماء الخمسة ذكر جملة من فوائدها منها النكتة اﻷولى :  أن سورة الفاتحة فيها عشرة أشياء ، منها خمسة من صفات الربوبية ، وهي الله ، والرب والرحمن ،  والرحيم ، والمالك ، وخمسة أشياء من صفات العبد وهي العبودية واﻻستعانة وطلب الهداية وطلب اﻻستقامة وطلب النعمة كما قال : (صراط الذين أنعمت عليهم)  فانطبقت تلك اﻷسماء الخمسة على هذه اﻷحوال الخمسة ، فكأنه قيل إياك نعبد ﻷنك أنت الله ، وإياك نستعين ﻷنك أنت الرب ،  اهدنا الصراط المستقيم ﻷنك أنت الرحمن وارزقنا اﻻستقامة ﻷنك أنت الرحيم ،  وأفض علينا سجال نعمك وكرمك ﻷنك مالك يوم الدين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق